يعتقد بافلوف
أن النشاطات النفسية المركبة نتاج للعلاقة بين العضوية والوسط وليست شيئا آخر غير
ردود الأفعال المنعكسة الشرطية التي تجسد استجابة العضوية إزاء الوسط الذي توجد
فيه والذي يمثل بدوره عاملا خارجيا فإلى جانب الأفعال المنعكسة الفطرية والتي
تستند إلى أسس تشريحية بيولوجية توجد أفعال منعكسة مكتسبة شرطيه تعبر عن الأشكال الأكثر تطورا للنشاطات الإنسانية
.
وتجسدت فكرة
بافلوف هذه في اكتشافاته الخاصة
بالأفعال المنعكسة الشرطية والتي كان لها
أثر كبير في بناء نظريته الجديدة حول الحياة النفسية. لقد حاول في أعماله أن يجيب
عن مسألته المركزية والتي تتمثل في طبيعة العلاقة بين الدماغ والنشاطات النفسية
وهو يقول في هذا الصدد" ألا يمكن لنا أن نجد مظاهر نفسية أولية يمكنها في الوقت نفسه أن تكون وعلى نحو كلي
ظاهرة فيزيولوجية " وانطلاقا من ذلك كان بافلوف يتساءل عن إمكانية إجراء
دراسة جادة ودقيقة تسعى إلى الكشف عن شروط وجود هذه الظاهرة في سياق مركباتها واختلاطاتها .
بدأت قصة الكشف
عن الفعل المنعكس الشرطي عندما كان بافلوف يجري أبحاثه الخاصة بالإفرازات اللعابية
عند الكلب حيث لاحظ أن لعاب الكلب بدأ بالسيلان قبل وصول الطعام ( قطعة اللحم )
إلى فمه وأن لعاب الكلب يسيل لمجرد رؤية من يقدم له الطعام أو لدى سماع خطواته .
ومع أن هذه الملاحظة عادية وبسيطة إلا أن بافلوف وجد فيها منطلقه للبحث في وظيفة
الدماغ وهيأت له طريقة جديدة لتحليل العمليات الدماغية دون اللجوء إلى الطريقة
المعهودة عند علماء الفيزيولوجيا الذين كانوا يلجؤون إلى جراحة الدماغ وإزالة بعض
جوانبه من أجل إدراك
وظائف الأجزاء المبتورة . ومن هذا المنطلق قيل أن عظمة بافلوف
تكمن في قدرته على اكتشاف أهمية ظاهرة تبدو بسيطة من حيث المظهر وأن هذه القدرة
على التبصر العبقري مكنته من الوصول إلى تبصرات عبقرية جديدة في مجال فيزيولوجيا
الدماغ نفسه .
ومن هذا
المنطلق بدأ بافلوف أبحاثه حول الدورة الدموية والبنية العصبية للجهاز الهضمي
واستطاع عبر هذه الأبحاث والتحارب الفيزيولوجية حول التنظيم العصبي لجهاز الهضم أن
يصل إلى اكتشافه العظيم حول الأفعال المنعكسة الشرطية ( Réflexes
conditionnelles ) لقد لاحظ بافلوف في إطار تجاربه العلمية أن
الفعل المنعكس الخاص بسيلان اللعاب لا يتم على أثر الاحتكاك المباشر بين الطعام
والغدد اللعابية الفموية فحسب بل أن ذلك يتم أيضا تحت تأثير بعض الإشارات التي
ترتبط عفويا بالمثيرات الطبيعية وذلك مثل
الأصوات التي تسبق وجبة الطعام . ويعطي بافلوف للفعل المنعكس عن بعد وهي ردود الفعل الناجمة عن إشارات وأصوات تسمية الأفعال
المنعكسة الشرطية Réflexes conditionnelles) . وتبين فيما بعد لبافلوف أن الاستجابات العصبية للفعل المنعكس الخاصة بسيلان اللعاب لا
ترتبط بالعوامل الفيزيولوجية الخاصة فحسب ( و هذا يعني العوامل التي تقوم بعملية
التحريض على نحو مباشر ) بل ترتبط بعوامل
نفسية أيضا . و هو في هذا السياق يوظف مفهوم " اللعاب النفسي Sécrétion Psychique)) و ذلك في إطار محاضراته حول إفرازات الغدد
اللعابية و الهضمية و ذلك في عام (1897 ) .
ومن جهة أخرى
وجد بافلوف فرصته في اختبار العلاقة بين الظاهرة النفسية والظاهرة الفيزيولوجية،
فسيلان اللعاب لمجرد رؤية من يقدم الطعام أو لمجرد سماع صوته ليس بظاهرة
فيزيولوجية لأنه على المستوى الفيزيولوجي لا علاقة بين الطرفين وأن سيلان اللعاب
مرهون على المستوى الفيزيولوجي بالاحتكاك بين الطعام وحليمات اللعاب في الفم . ومن هذا المنطلق أطلق
بافلوف على سيلان اللعاب المرتبط بالمشاهدة اصطلاح اللعاب النفسي وهو يريد بذلك أن يشير إلى أن السلوك الحادث هو
سلوك نفسي وليس فيزيولوجي وذلك لغياب العلاقة الموضوعية فيزيولوجيا بين المشاهدة وإفرازات اللعاب . وفي هذا المسار
حاول بافلوف أن يدرس العلاقة الجوهرية بين الظاهرة النفسية والظاهرة الفيزيولوجية
عن طريق اكتشاف العلاقة بين المثيرات الخارجية ووظائف الدماغ العصبية العليا . لقد
اعتقد فرويد أن حدوث الإفرازات النفسية تؤدي إلى بناء علاقات جديدة تسجل في لحاء
المخ أو في القشرة الدماغية عند
الحيوانات العليا . وهو بذلك كله يريد أن يبرهن بأن السلوك النفسي عند الإنسان
يرتكز إلى أسس بيولوجية فيزيولوجية مركزها اللحاء المخي عند الإنسان أو الحيوانات
العليا .
وعلى أثر هذه
الملاحظات الخاصة بإفرازات اللعاب أجرى بافلوف سلسلة متواصلة من التجارب على
الكلاب من أجل التحديد العلمي لحركة هذه الظاهرة ورسم تجلياتها في صورة قوانين
علمية واضحة قام على أثرها بتحديد المفاهيم الأساسية لنظريته هذه الخاصة بالتعزيز
والانطفاء والتعميم والترابط والتعلم.
لقد أطلق
بافلوف على المثير الطبيعي للطعام المثير غير الشرطي وعلى الاستجابة الطبيعية الاستجابة غير الشرطية ،
ثم أطلق على المثير الخارجي (صوت الجرس ) المثير الشرطي وعلى
الاستجابة غير الطبيعية
( سيلان اللعاب
لمجرد سماع صوت الجرس ) الاستجابة الشرطية
ويمكن توضيح جوانب المسألة بالمثال التالي :
م1- مثير طبيعي
( قطعة اللحم ) ------ استجابة طبيعية ( إفراز اللعاب )س1
م2مثير شرطي (
صوت الجرس ) ------- استجابة طبيعية ( السماع) س2
مثير طبيعي
(قطعة اللحم ) + مثير شرطي( صوت الجرس ) + تكرار الارتباط يؤدي إلى استجابة شرطية
هي إفراز اللعاب .
وبطريقة
أخرى يمكن صياغة المعادلة التالية :
م1+م2ومع
التكرار ـــــ س1+س2 وبالنتيجة م2ـــــــ س1.
يبن
المخطط السابق أن المثير الذي كان حياديا
(رنين الجرس ) وبفعل الترابط يستطيع أن يلعب دور المثير الطبيعي الذي هو قطعة
اللحم وأن يؤدي إلى استجابة شرطية هي سيلان اللعاب عند الكلب .
0 التعليقات:
إرسال تعليق